تفاصيل عسكرية وتحديات “خاصة” من حياة سمير جعجع

حاولت الناشطة الحقوقية ندى عنيد في كتابها “سمير جعجع: حياة وتحديات” جمع فصول من حياة رئيس حزب “القوات اللبنانية” في مراحلها كافة: الطفولة في بشرّي، سنوات دراسة الطبّ في الجامعة الأميركيّة في بيروت، متاريس الحرب، مواجهاتها السياسيّة ومعاركها الدامية، سنوات السجن الطويلة، الاتهامات والأحكام، إلى استعادة الحريّة والموقع السياسيّ.

والكتاب هو نتاج 18 ساعة من الحديث خاضتها عنيد مع قائد القوّات اللبنانيّة، وبعض الأبحاث التي قامت بها لمواكبة قصّته الشخصيّة وتحديد الإطار السياسيّ والتاريخيّ الذي دارت فيه.

وتعرّف عنيد كتابها بأنه “فصول حياة متقلّبة وصاخبة بالأحداث، جمعتها بين دفّتي كتاب يختصر مرحلة مهمّة وملتبسة من تاريخ الحرب الأهليّة اللبنانيّة التي كان جعجع من بين أهمّ اللاعبين فيها”. وإلى جانب البُعد التوثيقي، يتضمّن الكتاب تفاصيل غير شائعة عن حياة جعجع وتجربته.

 وتوقع عنيد كتابها نهار الجمعة 24 تشرين الاول في مكتبة أنطوان – أسواق بيروت بنسختيه العربية والفرنسية  الساعة 5 مساءً في مكتبة أنطوان- أسواق بيروت ساحة العجمي.

وهي تؤكد ان قائد القوات اللبنانية “لم يراجع الكتاب، لا من قريب ولا من بعيد، بعد إجراء الحديث معه”.

وفي الآتي، تنشر “النهار” نصوصاً من الكتاب:

الفصل 3: السنوات الحالكة

الكبرياء، نفاد الصبر، السخرية، التسلّط والاستفزاز… تلك الصفات التي أسهمت في إرساء سمعته كمقاتل، ثمّ قائد، وأخيرًا زعيم، لم يعد لها مكان في حياته الجديدة. على غرار الأنبا أنطونيوس الكبير الذي كان يمتحن قدرته على مقاومة الشيطان بالتصبّر على الشتائم التي كان يثيرها بنفسه، بنى جعجع بصبر دؤوب نظام مناعته في وجه الإذلال، فكبت الغضب الذي كان يغلي في داخله كلّما تمكّن من وضع اسم على أحد أصوات سجّانيه الذين لم يكن يرى وجوههم، أصوات باتت أليفة على مرّ الأيّام الطويلة.

… لم يكن من باب الصدفة أن يحرسه أبو شريف تحديدًا. فالحارس الموكّل به خصّيصًا والمكلّف بجعل اعتقاله أشقّ ما يمكن، شخص شرس وحادّ إلى درجة يبدو معها مضحكًا وسخيفًا. “العثمانيّون نسوا أحد عناصرهم في سجن وزارة الدفاع”، قال مرّة للفرقة التي كانت تواكبه إلى قصر العدل، مثيرًا ضحك الجنود. في انتظار بلوغ الترفّع المطلق، كان لا بدّ لسمير جعجع من التسلّح بروح الفكاهة والسخرية.

… ردّد له الجميع باستمرار أنّ الحلّ للمشكلات التي تواجهها القوّات اللبنانيّة يمرّ عبر إقامة علاقات جيّدة مع دمشق. كم مرّة نصحه نائب مدير المخابرات في الجيش اللبنانيّ العقيد جميل السيّد، أحد أزلام اللواء الركن غازي كنعان الذي كان يقول عنه “عيني وأذني”، بزيارة رئيس جهاز الأمن والاستطلاع للقوّات السوريّة في لبنان “لأنّه لا يسعني أنا أن أفعل شيئًا من أجلك” كما كان يردّد.

… تلك المحادثات مع الضابط السوريّ جرت في أجواء من اللباقة الدبلوماسيّة، بدون أن تفضي إلى أيّ نتيجة ملموسة، حيث بقيت المسائل التي جرى بحثها موضع خلاف. كان السوريّون، عملًا بتكتيكهم المعهود، يغذّون الخلافات بين المسؤولين والقادة اللبنانيّين ويدفعون إلى التصعيد، حتّى يهرعوا بعد ذلك لنزع فتيل الأزمة التي أثاروها أو إخماد الحريق الذي أشعلوه بأنفسهم.

يذكر جعجع المحاولة الأخيرة للتوافق مع السوريّين التي لم تُكلّل بالنجاح. كان ذلك في كانون الثاني/يناير 1994، حين زار القرداحة، مسقط رأس عائلة الأسد في شمال سوريا، لتقديم تعازيه للرئيس بوفاة نجله البكر باسل الأسد في حادث سير. انصبّ الاهتمام بالكامل يومها على زيارة قائد القوّات اللبنانيّة وبقيت كلّ الأنظار موجّهة إلى سمير جعجع الجالس في صفوف الزوّار الرفيعي المستوى.

… يُذكر أنّه حين خرج يومها تحت المطر من صالة التعازي، بادره اللواء الركن غازي كنعان عارضًا عليه زيارة دمشق “في أقرب وقت” لتسوية المشكلات العالقة بين حزبه والنظام السوريّ. كان جواب الحكيم واضحًا وقاطعًا: “جئت لمواساة والد مفجوع، لا لإنكار مبادئي أو الموافقة على ما هو مرفوض”. والمرفوض كان “معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق” التي فرضتها سوريا على لبنان من أجل تكريس هيمنتها على بلد الأرز، وتلك الحكومة اللبنانيّة الدمية المؤلّفة من أربعة وعشرين وزيرًا يتلقّون تعليماتهم من دمشق.

… كانت سنة 1988 سنة مفصليّة للبنان. ففي شباط/فبراير من ذلك العام، زارت أبريل غلاسبي، مسؤولة قسم لبنان وسوريا والأردن في وزارة الخارجيّة الأميركيّة، بيروت للبحث في إمكان التوصّل الى اتّفاق بين دمشق والمعسكر المسيحيّ اللبنانيّ على من يخلف أمين الجميّل، قبيل انتهاء ولايته الرئاسيّة في أيلول. كانت واشنطن في ذلك الحين تغازل الأسد الذي أسهم في تحرير رهائن أميركيّين، وقام عبر حركة أمل الشيعيّة المتحالفة معه بالقضاء على الميليشيات السنّيّة في بيروت، وتحجيم الحزب التقدّميّ الاشتراكيّ، وقمع الفلسطينيّين خلال حرب المخيّمات المدمّرة، والتصدّي لتوسّع حزب الله المدعوم من إيران. هكذا أحكمت حركة أمل سيطرتها على بيروت الغربيّة، ممهّدة بذلك لعودة السوريّين بمباركة الغرب إلى هذا الشطر من العاصمة بعدما أُرغمت على الخروج منه في نهاية آب/أغسطس 1982.

فشلت مهمّة غلاسبي، كما فشلت محاولة لاحقة في نيسان/أبريل. فسوريا المعادية لأيّ تفاهم بين الطوائف والفصائل اللبنانيّة، مارست ضغوطًا شديدة على القادة المسلمين الذين لم يسعهم سوى أن يرفضوا أيّ انفتاح ومشاريع اتّفاق طرحتها السلطة، ومنها خطّة من ثماني نقاط عرضها أمين الجميّل.

… عاد أمين الجميّل والتقى مع حافظ الأسد في حزيران/يونيو 1988 في إطار القمّة العربيّة الاستثنائيّة التي أكّدت دعم الانتفاضة الفلسطينيّة. كان ذلك أوّل لقاء بينهما منذ سقوط الاتّفاق الثلاثيّ في كانون الثاني/يناير 1986. تعهّد الرئيس اللبنانيّ بأن يرفع إلى نظيره السوريّ لائحة بأسماء أربع أو خمس شخصيّات يمكنها تولّي سدّة الرئاسة، حتّى يوافق على واحد منها.

… سعيًا لضمان تأييد القوّات اللبنانيّة، توجّه أمين الجميّل ونائب قائد القوّات كريم بقرادوني في 9 تمّوز/يوليو في مروحيّة إلى جبل القطّارة في قضاء جبيل، حيث كان سمير جعجع يقضي فصل الصيف بعد نجاته من ثلاث محاولات اغتيال. كادت الرحلة تنتهي بمأساة، إذ اصطدمت مروحة الطوّافة بكابلات عمود كهربائيّ للتوتّر العالي، ما اضطرّ رئيس الجمهوريّة الذي كان يقود بنفسه المروحيّة، إلى القيام بهبوط اضطراريّ في حقل قمح.

قال الجميّل لجعجع الذي تقدّم للترحيب به: “تصوّر لو وقع حادث كم سيكون من الصعب إقناع الجميع بأنّه لم يكن مدبّرًا”، فأجاب جعجع وهو يضحك، ساخرًا ممّا يُنسب إليه عادة من نوايا مكيافيليّة: “لظنّوا بالتأكيد أنّ بقرادوني أراد أن يصالحنا، فاغتنمنت الفرصة لتصفيتكما دفعة واحدة”.

الفصل 6: للضرورة احكامها

في صباح الأوّل من حزيران/يونيو 1976، دخل ستة آلاف جنديّ ومئتان وستّون مدرّعة للجيش السوريّ رسميًّا إلى لبنان.

… لم يكن من المقبول بنظر مقاتل شابّ في الرابعة والعشرين من العمر لم يختبر دهاليز السياسة وتناقضاتها، الارتهان لقوّة خارجيّة، فيما جذور المشكلة تكمن في الوجود المسلّح الفلسطينيّ على الأراضي اللبنانيّة.

… كان الفلسطينيّون ومسلّحو القوى التقدّميّة قد احتلوا مدينة شكّا الساحليّة ويستعدّون لاجتياح منطقة الكورة بالكامل. وردت أنباء عن مجازر فظيعة ارتُكبت، وفي حمأة الاشتباكات الضارية، هبّ سكّان المنطقة لدعم الميليشيات العاجزة عن التصدّي للهجوم وحدها. كان الظرف خطيرًا. لم يتفوّه سمير بكلمة. عاد إلى المنزل، ودّع والديه الحزينين، وضع بندقيّة والده على كتفه، وانحدر مع ثلاثين شابًّا من القرية في اتّجاه عين عكرين، حيث المقرّ العامّ لحزب الكتائب.

كانت المرحلة الأولى من الهجوم المضادّ المسيحيّ لاستعادة السيطرة على الكورة تقضي بمهاجمة أميون، مركز القضاء. كُلّفت الوحدة المسلّحة التي كان سمير في عداد عناصرها بمهاجمة سرايا المدينة من الخلف، لدحر مقاتلي القوى التقدّميّة المتمركزين فيها وإرغامهم على التراجع صوب خطّ التماس، حيث تقوم وحدات أخرى من القوّات اللبنانيّة بمهاجمتهم مباشرة.

… كان سمير واثنان من رفاقه يحتمون عند مدخل أحد المساكن بانتظار الوقت المناسب للتقدّم، حين وجدوا أنفسهم فجأة أمام مقاتل عدوّ أطلق النار عليهم من مسافة قريبة قبل أن يُصاب بدوره. أصيب طوني جعجع برصاصة مباشرة في جبهته فيما كان واقفًا في مكان مكشوف. نازع فتى الخامسة عشرة على مدى ساعة بدت كأنّها دهر، ورفاقه بجانبه. كانت تلك أوّل مواجهة لسمير مع الموت في ساحة معركة. وكانت تجربة في غاية القسوة، حتّى لطالب في الطبّ. مع حلول المساء، كان المقاتلون قد استعادوا المواقع المحدّدة، غير أنّهم اضطرّوا بعد الخسائر التي تكبّدوها إلى طلب تعزيزات للاحتفاظ بها. حملوا الجثث الممدّدة على الأرض ووضعوها جانبًا، وجلسوا حول بئر منهكين، محبطين وجائعين، ينتظرون المساعدة والطعام اللذين طالبوا بهما مرارًا باللاسلكي. كان الشبّان يسترقون النظر بطرف أعينهم إلى البئر بدون أن يجرؤوا على الاقتراب منها، بعدما رأوا أحد الرفاق يلقي فيها جثّة لم يكن يقوى على حملها. لكنّ العطش كان أقوى من كلّ الاعتبارات، فشرب سمير كما رفاقه من مياه البئر الملوّثة، وهو يتساءل بأيّ سخرية من القدر وصل الأمر بطالب في الطبّ إلى مثل هذا الوضع المزري. وصلت التعزيزات أخيرًا: خمسة مقاتلين متمرّسين ومدرّبين على أفضل وجه، أعادوا المعنويّات إلى فرقة بشرّي الصغيرة التي بدأت تستعدّ للهجوم النهائيّ على السرايا.

عند انتهاء المعركة، وبعد تحقيق الهدف و”تنظيف” المنطقة، استأنف الشباب سيرهم عبر الحقول لاستعادة مواقع جديدة… حين وصلوا أخيرًا إلى مشارف طرابلس، كانت الميليشيات المسيحيّة التي استعادت شكّا واحتلّت منطقة الكورة، مصمّمة على مواصلة هجومها المضادّ. توقّفت الفرقة في بلدة ددّة لتخيّم هناك بين أشجار الزيتون، ريثما يعزّز الرفاق مواقعهم. حين تمكّن سمير أخيرًا من حلّ حذائه العسكريّ الذي لم يكن خلعه منذ خمسة عشر يومًا، تبيّن له أنّ العمليّة أصعب ممّا كان يعتقد، واكتشف بدهشة أنّ جاربيه كانا ملتصقين حرفيًّا بجلده بفعل العرق والقذارة.

… وردت أنباء في صباح أحد أيام تشرين الأولّ/أكتوبر بأنّ دوريّة سوريّة قادمة من قرية إهدن المجاورة، تتّجه صوب بشرّي. همّ الشباب بإقامة حاجز لاعتراض طريقها. علمت الدوريّة بالأمر، فأبلغت قيادتها التي اتّصلت بدورها بأعضاء في الجبهة اللبنانيّة كانوا مجتمعين في مؤتمر في المنطقة. كان ذلك الاتّصال على قدر بالغ من الأهميّة على ما يبدو. فبعد ساعتين، توقّفت سيّارة أنيقة أمام الشباب المتأهّبين عند الحاجز، وفوجئوا بالشيخ بيار الجميّل بنفسه يترجّل منها.

– من المسؤول هنا؟ سأل رئيس حزب الكتائب بتلك البحّة المميّزة في صوته، مقلّبًا النظر بين الشباب.

– كيف الحال شيخ بيار؟ بادره سمير وهو يتقدّم نحوه بخطى واثقة.

– لماذا أقمتم هذا الحاجز؟ أزيلوه.

– لمنع السوريّين من الدخول إلى القرية، لا شأن لهم هنا. سنبقى هنا ما دام ذلك ضروريًّا.

– أنا بيار الجميّل، وأطلب منكم الرحيل، قال الزعيم فاقدًا صبره.

– وأنا سمير جعجع، وأقول لك إنّنا باقون، أجاب الشابّ، بدون أن يهاب مقام الرجل الذي لا تُناقَش أوامره في الحزب، ولا سنّه القريبة من سنّ والده، ثم تابع:

– اتّفاق وقف إطلاق النار حدّد دور القوّات السوريّة كقوات ردع على خطوط التماس وفي مناطق الاشتباكات، وبشرّي لا تصنّف حتّى إشعار آخر ضمن أيّ من هاتين الفئتين. مرور الدوريّة سيُعتبر إمّا عملًا استفزازيًّا من السوريّين، أو دليلًا على احتلالهم هذا البلد.

– حسنًا، أتفهّم وجهة نظرك، لكن فكّر في عواقب قرارك، ختم بيار الجميّل وهو يعود إلى سيّارته.

اقترب الحارس الشخصيّ من جعجع ونصحه خافضًا صوته أن يراعي كرامة الشيخ بيار الذي لم يكن معتادًا أن يعانده أحد. لم يفهم سمير: فالشيخ بيار رغم موقعه وزعامته، كان مخطئًا في هذه النقطة، ومن واجبه هو أن يصحّح هذا الأمر. في النهاية، جرت مناقشات طويلة انتهت بتسوية. أُذن للدوريّة السوريّة بالمرور، لكن بشرط أن يصعد مقاتلان لبنانيّان في كلّ من الآليّات السوريّة إلى حين رحيلها من المنطقة، في خطوة رمزيّة تمنع جيش دمشق من الإحساس بأنّه في موقع قوّة.

حين كانوا يسألون بيار الجميّل لماذا حمل حزبه السلاح، كان يستشهد بتيوفيل غوتييه عندما دخل باريس المحاصرة من البروسيّين، فقال “حين يتعرّضون لأمّي، أهرع”.

سمير أيضًا خاض الحرب بدون سابق تصميم، من باب الضرورة، تدفعه غريزة بقاء خارجة عن المنطق.

الفصل 15: المياه تعود الى مجاريها

كم من الوقت يحتاج المرء للبوح بكلّ ما بقي مكتومًا بين جدران قاعة مقابلاتٍ في سجنٍ طوال أحد عشر عامًا؟

لم تتفوّه ستريدا بكلمة خلال الساعة الأولى من الرحلة. اكتفت بالإمساك بيد زوجها، كأنّما لتتأكّد من أن ما تعيشه حقيقي، وليس حلمًا. ثمّ فجأة، تدافعت الكلمات وسالت في فيض مسهب عشوائيّ، لم ينضب سوى مع هبوط الطائرة في باريس. أرادت ستريدا أن يعرف سمير أوّلًا كم كان التعايش مع الخيانات والتعامل معها صعبًا ومعقّدًا، كم كان من الصعب عليها وعلى الأوفياء للقضيّة، أن يعلموا بأنّ مسؤولين منشقّين كانوا يدّعون خلال زياراتهم له في السجن أنّهم مضطرّون إلى تبديل ولائهم بسبب غياب القيادة على رأس القوّات اللبنانيّة. كان زوجها يستمع إليها مستغربًا مرتابًا بعض الشيء، وهو لا يزال مأخوذًا بالاستقبال الحارّ الذي لقيه في مطار بيروت، فقاطعها مرّة ليقول لها كم تأثّر حين رأى فلانًا يكلّمه “والدمعة في عينه”. كيف له أن يدرك أنّ هذا الفلان نفسه، كسواه من الذين عانقوه بكثير من العاطفة والمودّة في المطار، كان يراهن على غيابه النهائيّ عن الساحة، واثقًا من أنّه لن يراه مجدّدًا على قيد الحياة؟

وصل الخبر إلى العاصمة الفرنسيّة، فتجمّع حوالى مئتين من أنصار جعجع عصرًا في القاعة الكبرى من مطار رواسي، رافعين صور الحكيم وأعلام القوّات اللبنانيّة، في انتظار طائرة إير فرانس التي تقلّه. حضر أيضًا عدد من الصحافيّين، ولا سيّما من قنوات فضائيّة عربيّة، لتغطية الحدث. لكنّ انتظارهم خاب ولم يتمكّنوا من رؤية سمير جعجع، إذ استقبلته السلطات الفرنسيّة لاعتبارات أمنيّة فور نزوله من الطائرة، ونقلته مع كلّ من كان يرافقه في رحلته في موكب خاصّ انطلق مباشرة من مدرج المطار إلى مكان إقامته، في فندق رائع محاط بالأشجار بجوار فرساي.

… “حضرتك سمير جعجع؟ مبروك. إنّني سعيد لإطلاق سراحك،” بادره أحد الحمّالين الثلاثة عند مدخل الفندق، وهو يرفع حقيبته. دُهش الوافدون اللبنانيّون، ولا سيّما أنّهم اتّخذوا مبدئيًّا كلّ الاحتياطات اللازمة حتى يُحاط وصولهم وإقامتهم بسريّة تامّة، فقد تمّ التعرّف إلى قائد القوّات اللبنانيّة من خلال صور له نُشرت في الصحف. أبلغ أقرباء الحكيم المسألة للشرطة المكلّفة أمنه، فطلبت من إدارة الفندق إرسال الحمّال الشابّ في إجازة.

خصّ الفندق سمير جعجع بغرفة شاسعة فخمة، فيها نافذة واسعة تطلّ على متنزّه رائع، غير أنّ الحكيم لم يُبدِ إعجابًا خاصًّا بالمكان. وقفت ستريدا وإدي أبي اللمع يراقبانه بذهول، عاجزين عن تصديق ما يجري، فيما وضع أمتعته، وضّب بعض الأغراض، وتناول الهاتف في حركة طبيعيّة وعفويّة للاتّصال بمكتب الاستقبال، وكأنّه لطالما كان مقيمًا في الغرفة.

… في صباح اليوم التالي، حين دقّ على باب غرفة إدي أبي اللمع ليصطحبه في “جولة الهرولة الصغيرة” التي اتّفقا عليها في اليوم السابق، تبعه رفيق الأوقات الصعبة هذا بدون أن تساوره أيّ شكوك، مرتديًا سروالًا قصيرًا ومنتعلًا حذاءً رياضيًّا. ظنّ هذا المدخّن المزمن الذي تُعتبر حالته البدنيّة متوسّطة، أنّهما سيجريان لمسافة قصيرة حول حديقة الفندق. حقًّا، ما الذي يمكن انتظاره من رجل خارج من أحد عشر عامًا في زنزانة مساحتها ستّة أمتار مربّعة؟ لكن في جولتهما الثالثة حول المتنزّه، اضطرّ إدي إلى الإبطاء بعدما أخذ يفقد أنفاسه، فيما جعجع واصل الهرولة بالوتيرة ذاتها. حتّى إنّ إدي اضطرّ مرّة أو مرّتين، للتعويض عن تأخيره، إلى العبور من وسط الحديقة للّحاق بجعجع الذي لم يبدُ عليه التعب على الإطلاق، بل واصل بعد ستّين دقيقة على انطلاقهما المشي السريع والهرولة بالمناوبة. استسلم رفيقه منهكًا ولم يعد يحاول اللّحاق به، بل انصرف لتصوير المناظر الطبيعيّة بآلة التصوير التي جلبها معه.

حرص جعجع على ولوج حياته الجديدة تدريجيًّا، خطوة خطوة، حتّى لا يباغت التغيير جسده أو نفسيّته، أو تكون وطأته شديدة عليهما. تعامل مع حرّيّته المستعادة مثلما تعامل مع اعتقاله. عمد إلى إدخال أطعمة جديدة يومًا بعد يوم إلى غذائه، وقلّص تدريجًا المدّة المخصّصة لوجباته، بعدما كانت محطّات مميّزة من يوميّاته في السجن، اعتاد التلذّذ بها طويلًا. من دون تسرّع، وعلى إيقاع دقيق، كان يرجئ إلى وقت لاحق كلّ ما يحدس بأنّه غير قادر على احتماله بعد. وفيما كان المحيطون به يتوقّعون أن يُفتَن بكلّ ما يراه، لم يُبدِ أيّ فرحة، ولا حتّى أيّ دهشة حيال أيّ شيء.

… كان يتحدّث عن اعتقاله بكلام دقيق، بدون الإسراف في المشاعر، وكأنّ السجن مرحلة لا بدّ منها في مساره، محطّة مرهقة بالتأكيد، لكنّها في نهاية المطاف طبيعيّة على ضوء المنحى الذي اتّخذته حياته.

… كان من الصعب على جعجع تخطّي بعض ردود الفعل التي اكتسبها في السجن، فكان يجفل وينزعج من الجلبة والأصوات القويّة ورنين الهاتف، حتّى كان لا يزال يشعر بالحاجة إلى الاختلاء بنفسه فترات طويلة. كذلك، كان يطمئنّ لطقطقة المفاتيح تدور في الأقفال، فيطلب أن تقفل جميع الأبواب، وخصوصًا في المساء عندما تحين ساعة النوم، مثلما اعتاد في السجن.

على مرّ نزهاتهما الطويلة معًا والساعات التي كانا يقضيانها وحيدين، استعادت ستريدا يومًا بعد يوم الرجل الذي عرفته قبل أكثر من خمسة عشر عامًا. لكنّها ظلّت تثور كلّما كانت تستعلم عن رأيه في وضع أو موقف جديد، فيردّ على فضولها بعبارات فاترة، من نوع “لا شيء إطلاقًا” أو “كلّ شيء طبيعيّ”، أو تلك العبارة الإنكليزيّة خصوصًا “business as usual”التي باتت محطّ كلام ومزاح بينهما.